في بداية 1905، نشر كراس لتروتسكي في جنيف. كان هذا الكراس يحوي تحليلا للوضع السياسي كما كان عليه في شتاء سنة 1904. وكان الكاتب يخلص إلى الاستنتاج أن حملة الليبراليين المستقلة، من العرائض والمآدب، قد نفدت كل إمكانياتها، وأن الانتليجنسيا الراديكالية، التي وضعت فيهم كل آمالها، قد وصلت معهم إلى طريق مسدود، وأن الحركة الفلاحية كانت تخلق ظروفا مؤاتية للانتصار غير أنها كانت غير قادرة على تحقيقه، وأنه ليس من الممكن الوصول إلى حل قاطع إلا بانتفاضة البروليتاريا المسلحة وأن المرحلة الآتية في هذا الطريق ستكون الإضراب العام.
كان عنوان الكراس "قبل 9 ك2" لأنه كان قد كُتب قبل الأحد الأحمر في بطرسبرج. وأن موجة الإضرابات القوية التي تدفقت بعد هذا التاريخ، بالمصادمات المسلحة الأولية التي رافقتها، كانت إثباتا لا يُنكر للتكهن الستراتيجي للكراس.
كانت مقدمة عملي قد كتبها بارفوس. وهو مهاجر روسي نجح في أن يصبح، في ذلك الوقت، كاتبا ألمانيا مرموقا. كان بارفوس شخصية موهوبة بقدرة خلاقة استثنائية، بإمكانها التأثر بأفكار الغير كما بقدرتها أغناء الغير بأفكارها. لكن كان ينقصه التوازن الداخلي وحب للعمل كاف حتى يقدم للحركة العمالية مشاركة تليق بمواهبه كمفكر وككاتب. وقد أثر على تطوري الشخصي تأثيرا أكيدا، وبشكل خاص فيما يختص بالفهم الاجتماعي – الثوري لعصرنا. كان بارفوس قد دافع بشغف، قبل لقائنا الأول بعدة سنوات، عن فكرة إضراب عام في ألمانيا. ولكن الاشتراكية – الديمقراطية كانت، والبلد يمر بأزمة صناعية متواصلة، قد تكيفت مع نظام الهوهنزولرن. فلم تكن الدعاية الثورية الآتية من أجنبي تلاقي سوى اللامبالاة الهازئة. وعندما اطلع بارفوس، بعد أحداث بطرسبرج الدامية بيومين، على كرّاسي الذي كان آنذاك مخطوطا، استهوته بقوة فكرة الدور الاستثنائي الذي كان مقدرا لبروليتاريا روسيا المتأخرة أن تلعبه.
امتلأت تلك الأيام القلائل التي أمضيناها معا في ميونيخ بمحادثات أفادتنا نحن الاثنين لتوضيح أشياء عديدة وقاربتنا شخصيا الواحد من الآخر. وقد دخلت مقدمة كرّاسي التي كتبها بارفوس حينذاك في تاريخ الثورة الروسية. ففي بضع صفحات، ألقي الضوء على الخصوصيات التاريخية لروسيا المتأخرة، والتي وإن كانت معروفة من قبل، لم يستخرج منها أحد الاستنتاجات اللازمة.
كتب بارفوس:
"كانت الراديكالية السياسية في أوروبا الغربية – وهذا واقع معروف جيدا – مبنية أصلا على البرجوازية الصغيرة، أي على الحرفيين وبشكل عام على ذلك القسم من البرجوازية الذي قد وصل إليه التطور الصناعي ولكن الذي كانت الطبقة الرأسمالية تزيحه في الوقت نفسه".
"خلال الحقبة قبل الرأسمالية في روسيا، تطورت المدن أكثر بكثير على الطرازات الصينية منها على الطرازات الأوروبية. فكانت مراكز موظفين ذات صفة إدارية صرف، ليس لها أدنى فحوى سياسي، وكانت من حيث العلاقات الاقتصادية مراكز معاملات وأسواقا بالنسبة لما يحيطها من ملاكي أراضي وفلاحين. وكان تطورها ما يزال لا يذكر حين أوقفته الصيرورة الرأسمالية التي بدأت تخلق مدنا كبرى على صورتها، أي مدنا صناعية ومراكز للتجارة العالمية"...
"وقد كان لنفس السبب الذي عرقل تطور البرجوازية الصغيرة الأثر في تنمية الوعي الطبقي للبروليتاريا في روسيا، وذلك السبب هو التطور الضعيف لشكل الإنتاج الحرفي. فكان أن جُمِّعت البروليتاريا بشكل فوري في المصانع"...
"إن الجماهير الفلاحية ستُجر في الحركة بنسب دائمة التعاظم. لكنها غير قادرة على أكثر من زيادة الفوضى في البلد وإضعاف الحكومة بذلك، فلا تستطيع تشكيل جيش ثوري متلاحم بشكل صلب. فمع تطور الثورة، سيقع إذن على عاتق البروليتاريا جزء متعاظم دوما من العمل السياسي، وفي الوقت نفسه، سيتوسع وعيها السياسي، وستنمو طاقتها السياسية"...
"ستجد الاشتراكية – الديمقراطية نفسها أمام البقاء خارج الحركة العمالية. وسيعتبر الشغيلة هذه المعضلة التالية: أما تحمل مسؤولية الحكومة المؤقتة أو الحكومة حكومتهم، بمعزل عن الطريقة التي ستتصرف بها الاشتراكية – الديمقراطية... إن الانقلاب الثوري لا يمكن أن يكون في روسيا إلا من صنع البروليتاريا. وسيكون حكم الحكومة الثورية المؤقتة في روسيا حكم ديمقراطية عمالية. فإذا ترأست الاشتراكية – الديمقراطية حركة البروليتاريا الروسية الثورية، فستكون هذه الحكومة حكومة اشتراكية – ديمقراطية..."
"لن يكون بإمكان الحكومة المؤقتة الاشتراكية – الديمقراطية القيام بانقلاب اشتراكي في روسيا، ولكن عملية تصفية الأتوقراطية وإقامة جمهورية ديمقراطية ستقدم لها بحد ذاتها ميدانا مؤاتيا للعمل السياسي".
وقد التقيت ببارفوس مرة أخرى، في حمى أحداث خريف 1905 الثورية، وكان لقاؤنا في بطرسبرج. ومع احتفاظنا باستقلال تنظيمي تجاه الجناحين، نشرنا معا جريدة جماهيرية عمالية، "روسكايا سلوفو"، ونشرنا بالتعاون مع المناشفة جريدة سياسية كبرى، "ناتشالو". لقد قـُرنت نظرية الثورة الدائمة عادة باسميْ "بارفوس تروتسكي". غير أن هذا ليس صحيحا إلا بشكل جزئي. فالحقبة التي بلغ فيها بارفوس الوجه الثوري تقع في أواخر القرن الماضي، عندما كان على رأس النضال ضد "التحرفية"، أي ضد التحريف الانتهازي لنظرية ماركس. غير أن فشل المحاولات لدفع الاشتراكية – الديمقراطية الألمانية في طريق سياسة أكثر حزما قد نخر تفاؤله. فبدأ بارفوس يتصرف، أمام أفق الثورة الاشتراكية في الغرب، بتحفط متزايد. وكان يعتبر، في ذلك الوقت، أن "الحكومة المؤقتة الاشتراكية – الديمقراطية لن يكون بإمكانها القيام بانقلاب اشتراكي في روسيا". فكانت توقعاته تشير إذن، لا إلى تحول الثورة الديمقراطية إلى ثورة اشتراكية، وإنما فقط إلى إقامة نظام ديمقراطية عمالية من النوع الأسترالي، حيث كان قد قام للمرة الأولى، على أساس نظام اقتصاد زراعي، حكم عمالي لا يتجاوز أطر نظام برجوازي.
أما أنا فلم أكن أشاطره آراءه بالنسبة لهذا الاستنتاج. فالديمقراطية الأسترالية، التي كانت قد تطورت بشكل عضوي على الأرض العذراء لقارة جديدة، أخذت بشكل فوري طابعا محافظا وألحقت بنفسها طبقة بروليتارية شابة غير أنها ذات امتيازات. بينما الديمقراطية الروسية لا يمكنها، على عكس ذلك، أن تزدهر إلا إثر انقلاب ثوري عظيم لن تسمح ديناميته للحكومة العمالية في أي حال من الأحوال بالبقاء ضمن أطر الديمقراطية البرجوازية. وقد أفضت خلافاتنا التي بدأت بعد ثورة سنة 1905 بقليل إلى قطيعة تامة بيننا في بداية الحرب عندما وقف بارفوس، الذي كان الجانب المتشكك فيه قد قتل الجانب الثوري بشكل كامل، إلى جانب الإمبريالية الألمانية، وأصبح فيما بعد المستشار والملهم لايبرت، أول رئيس للجمهورية الألمانية.
أما عن نظرية الثورة الدائمة :
إن مركز سكان مدينة حديثة، على الأقل في المدن التي لها أهمية اقتصادية وسياسية، مؤلف من طبقة الشغيلة المأجورين المتميزة بشكل جوهري. وهذه الطبقة التي كانت بشكل أساسي غير معروفة خلال الثورة الفرنسية الكبرى، عليها هي بالضبط أن تلعب الدور الحاسم في ثورتنا... يمكن للبروليتاريا في بلد أكثر تأخرا من الناحية الاقتصادية أن تستلم السلطة قبلها في بلد رأسمالي متقدم. وإرادة سن نوع من التبعية الأوتوماتيكية من قبل الديكتاتورية البروليتارية إزاء القوى التقنية وموارد بلد ما، لا تعدو كونها أفكارا مسبقة مشتقة من مادية "اقتصادية" مبسطة إلى أقصى حد. إن نظرة كهذه لا شيء مشترك لها مع الماركسية. إذ أنه رغم كون قوى الإنتاج الصناعية متطورة في الولايات المتحدة أكثر بعشر مرات منها عندنا، فدور البروليتاريا الروسية السياسي، وتأثيرها على سياسية البلد وإمكانية تأثيرها المستقبلية على السياسة العالمية أكبر بما لا يقاس من دور البروليتاريا الأمريكية وأهميتها"...
"إن الثورة الروسية ستخلق، حسب رأينا، الظروف التي يمكن للسلطة معها (ومع انتصار الثورة يجب عليها) المرور إلى أيدي البروليتاريا قبل أن تتأتى الفرصة لسياسيي الليبرالية البرجوازية لإظهار براعتهم كاملة كرجال دولة... إن البرجوازية الروسية تتنازل بالتدريج للبروليتاريا عن كل المواقف الثورية. وسيكون عليها كذلك أن تتنازل عن قيادة الفلاحين الثورية. إن البروليتاريا الحائزة على السلطة ستظهر للفلاحين كطبقة محررة... وستسعى البروليتاريا، المستندة إلى الفلاحين، بكل ما في حوزتها من وسائل لرفع المستوى الثقافي للقرية ولتطوير وعي الفلاحين السياسي... لكن أليس معقولا أن يُغرق الفلاحون أنفسهم البروليتاريا ويحتلوا مكانها؟ إن هذا لمستحيل. وتجربة التاريخ بأكملها تحتج على افتراض كهذا. فهي تظهر أن الفلاحين كفئة عاجزون تماما عن لعب أي دور سياسي مستقل... وبحسب ما سبق، فالطريقة التي ننظر بها إلى "ديكتاتورية البروليتاريا والفلاحين" واضحة. إن جوهر المسألة ليس في معرفة ما إذا كنا نعتبرها مقبولة من حيث المبدأ، ما إذا كنا نجد هذا الشكل من التعاون مرغوبا فيه أو غير مرغوب. فنحن نعتبرها غير ممكنة التحقيق – بمعنى مباشر وفوري على الأقل".
إن هذا المقطع كاف حتى هنا ليثبت كم هو خاطئ الزعم الذي تم ترديده فيما بعد حتى الشبع، إن المفهوم المقدم هنا "يقفز فوق الثورة البرجوازية". لقد كتبت في ذلك الوقت: "إن النضال من أجل التجديد الديمقراطي لروسيا قد وصل إلى أقصى تطوره بقيادة قوى تتحرك على أساس الرأسمالية. وهو موجه مباشرة وقبل كل شيء ضد العوائق الإقطاعية التي تسد طريق تطور المجتمع الرأسمالي".
غير أن السؤال كان: أية قوى وأية وسائل بمقدورها بالضبط إزاحة هذه العوائق؟ بإمكاننا الإجابة على كل مسائل الثورة بتأكيدنا أن ثورتنا برجوازية في غاياتها الموضوعية، ومن ثم في نتائجها المحققة، وبإمكاننا هكذا إغلاق أعيننا أمام كون القوة الفاعلة الأساسية في هذه الثورة البرجوازية هي البروليتاريا، وأن البروليتاريا ستحملها إلى الحكم صيرورة الثورة كلها... يمكنكم أن تتلهوا بالأوهام القائلة أن الظروف في روسيا ليست ناضجة بعد من أجل اقتصاد اشتراكي – ويمكنكم بالتالي أن تغفلوا عن الأخذ بعين الاعتبار كون البروليتاريا، بعد استلامها السلطة، ستضطر بشكل محقق من جراء منطق الوضع بحد ذاته إلى إدخال اقتصاد دولة.
سيزيل ممثلو البروليتاريا بدخولهم في الحكومة، لا كرهائن عاجزة، وإنما كقوة قائدة، التمييز بين البرنامج الأدنى والبرنامج الأقصى، أي أنهم سيضعون الجماعية في مرتبة مهام الساعة. والنقطة التي ستوقف عندها البروليتاريا في هذا الاتجاه لن تكون رهنا إلا بميزان القوى، وليس أبدا بنوايا حزب البروليتاريا الأولية...
"غير أنه ليس من السابق لأوانه طرح السؤال: هل ستتحطم ديكتاتورية البروليتاريا هذه بلا محالة على إطار الثورة البرجوازية؟ أو أنها قد لا يكون بمستطاعها، على أسس عالمية تاريخية معينة، أن ترى آفاق الانتصار، الذي سيتحقق بتحطيم هذا الإطار الضيق، تفتح أمامها؟ هنالك شيء يمكن إعلانه بالتأكيد: من دون المساعدة المباشرة من قبل البروليتاريا الأوروبية، فإن الطبقة العاملة الروسية لن تستطيع الحفاظ على زمام السلطة، ولا تحويل تجمعها المؤقت إلى دكتاتورية اشتراكية طويلة النفس..." غير أنه لا ينتج أبدا من هذا تكهن متشائم. " إن التحرر السياسي للطبقة العاملة الروسية يرفعها إلى مصاف القائد المطلق القدرة، ويجعلها البادئة بالتصفية العالمية للرأسمالية، التصفية التي خلق لها التاريخ كل الظروف الموضوعية الضرورية..."
وبالنسبة للمدى الذي ستظهر فيه الاشتراكية-الديمقراطية العالمية أنها قادرة على ملء مهامها الثورية، كتبت سنة 1906:
"إن الأحزاب الاشتراكية الأوروبية – بدءا بأقواها، الحزب الألماني – مصابة كلها بالنزعة المحافظة. وبقدر ما تلتحق بالاشتراكية جماهير متزايدة وبقدر ما يتزايد تنظيم هذه الجماهير وانضباطها، تنمو نزعة المحافظة هذه بالقدر نفسه.
لهذا السبب يمكن للاشتراكية–الديمقراطية كتنظيم يجسد التجربة السياسية، أن تصبح في وقت معين عائقا مباشرا في طريق النزاع المفتوح بين العمال والرجعية البرجوازية..." غير أني في خلاصة تحليلي كنت أصل إلى التأكيد بأن "الثورة في شرق أوروبا ستمنح بروليتاريا الغرب مثالية ثورية، وستخلق فيها الرغبة بتكلم "الروسية" مع عدوها..."