موضوع: كيف اتت الديموقراطية الثلاثاء يوليو 17 2007, 17:57
كيف اتت الديموقراطية :
كنا صغارا ، في المرحلة الابتدائية ، عندما كنا نتحلق مساءا امام التلفاز ، نشاهد افلاما عن الهنود الحمر . و كنا نعجب من تلك الرقصات و الحركات البدائية ، التي كانوا يؤدونها حول نار ملتهبة . كانوا يصرخون باعلى اصواتهم ، صرخات متناغمة تعكس فنا و ايديولوجية الحرب ( كما فهمنا فيما بعد ) . كانوا يعتقدون ان في رقصاتهم تلك حول النار ، هم يخدمون آلهتهم و هي بدورها ستساعدهم و تنقذهم من عدوهم الابيض . كانوا يمارسون السحر ، و التعاويذ ، و يعلقون على رقابهم الريش ،او قطع الجلد التي يتباركون بها ! كانوا يحملون ايمانا كبيرا بانهم على صواب ، و انهم ارقى حضاريا من ذلك الدخيل الابيض الذي يهاجم تجمعاتهم و يقتل قطعان البوفالو التي عاشوا على لحومها و حليبها ، و استخدموا جلودها لقرون و قرون . و قامت الحرب بين الطرفين : الابيض الدخيل من ناحية ، و الهندي الاحمر من ناحية اخرى . و انتهت الحروب باستسلام الزعامات الهندية بعد ان لاحظوا ان شعوبهم مقبلة على انقراض سريع بسبب الحرب غير المتكافئة من حيث العدة و العدد و الاساليب ، و ان الابيض لا يختلف عن الهندي بلونه فحسب ، بل ان هناك فروقا كبيرة بينهما تؤهل الابيض لان ينتصر ، و هذا ما حصل .
تكررت الافلام ، و نحن صغار . و بين الفيلم و الفيلم ، كنا نصل الى قناعات و استنتاجات متزايدة ، عرفنا من خلالها ، ان أي شعب منغلق على نفسه ، ناظر الى نفسه على انه محمي من اله خارجي ، كما كان الهنود الحمر يؤمنون ، و ان عاداته و تقاليده هي الاسمى ، و ان الايمان وحده كاف لانقاذه في مجتمع دولي يعج بالتناقضات و الصراعات ، و التطور الحضاري الذي يسبقنا بخمسمئة سنة تقريبا ، فهذا الشعب لن يكتب له سوى الآلام ، و من ثم الاستسلام . او يتعرض للابادة من قبل خصومه . اذ لو لم يتكيف الهنود الحمر ، في أواخر ايامهم ، مع الدخيل الامريكي المتطور ببنادقه ضد اقواسهم ، و بتنظيماته و قلاعه ضد اكواخهم ، و باختراعاته ضد تعاويذهم و ايقوناتهم ، لما بقي هندي احمر نتعرف من خلاله على ذلك الجنس من البشر .
تتصف الشعوب البدائية بخضوعها للدين بشكل طقسي لا عقل فيه ، بل خضوع اعمى لهيمنة العرافين او السحرة او الشامان او الكاهن الاعظم او رجال الدين أو المؤسسة الدينية في عصرنا الحالي . و كلما كان الخضوع اكمل كلما كانت هناك قدرة على الصمود ، و يعود السبب في ذلك الى ان التجمعات البشرية القديمة لم تعرف العلم بمفهومه الحالي و المعاصر . بل كانت تحصل على المعارف من خلال ألسنة الاجداد و احاديثهم . و لهذا فقد وجدت في عقيدة تقديس الاجداد مكان لها في تلك المجتمعات البدائية . و بما أن المهارات و الخبرات كانت فردية ، و بما ان نقلها للاجيال كان بطيئا و غير منظم ، فقد تطورت الشعوب تطورا استغرق الآف السنين لنصل الى ما نحن عليه اليوم .
لم تكن هناك مدارس ، ولا صحافة ، و لا محطات فضائية ، يستقي منها الناس معارفهم ، لكن العراف او رجل الدين كان يشكل المصدر الاساسي للمعلومات في القبائل البدائية . و كان الدين بمثابة الوعاء الجامع لتاريخ تلك القبيلة و عاداتها و تعاليمها و مقدساتها بشل عام . لكن تطور العلوم الحرفية ادى الى تطور الادوات التي يستعملها الانسان في حياته . ومع الوقت نشات تجمعات المدن و تطورت الادوات لتصبح آلات صنعها مهندسون كانوا في الاصل حرفيين مهرة بارعين . مع ظهور الآلات بدا يتشكل مجتمع جديد . مجتمع بحاجة الى عمال ، مجتمع لا يجد عمالا من حوله بل فلاحين يعملون في اراض يملكها غيرهم . عمد المهندسون الى تعليم اولئك العمال على كيفية تشغيل تلك الآلات و العناية بها و العمل عليها لساعات طويلة في اليوم . و مع مرور الوقت كثرت الآلات و كثرت المعامل و كثر العمال . و أصبح أولئك العمال في معاملهم يشكلون تبعية كاملة لاصحاب المعامل . و بدا أصحاب المعامل بما يملكون من عمال يهددون سلطة الملك ، و معه رجال الدين الذين كانوا يساعدونه في التحكم بالشعب من حوله بما يناسب هواه و رغباته و طموحاته الشخصية . بدات الطبقة الجديدة ، طبقة مالكي المعامل بعمالها الكثر ، يشكلون لانفسهم نمطا جديدا من التصورات و المفاهيم و الافكار و المقولات التي كانت تختلف عما هو سائد من حولهم . فقد كانت مفاهيم الملك تخدم مصالحه ، و كان قوانينه تخدم مصالحه ، و كانت عاداته التي عود شعبه عليه مخصصة بما يخدم اهدافه في السيطرة و التمكن من السلطة جيلا بعد جيل . لكن اصحاب المعامل و العمال بدأوا يستخدمون مفاهيمهم الخاصة ، التي تخدم عملهم و تخدم تطلعاتهم و اهدافهم في سبيل التطور العام لمجتمعاتهم .
كان الملك يحكم بناءا على ايديولوجيا دينية . حيث يخوله الدين الحصول على سلطة مطلقة باسم الرب . سلطة تسمح له بان يحرك الجيوش لمجرد خلاف بينه و بين ملك آخر مجاور على قطعة أرض قد لا تزيد عن حجم قصر الملك . او بسبب كلمة سيئة نطق بها الملك الآخر بحقه ، او طمعا بالزواج من ابنة الملك الآخر كي يرثه بعد مماته . وما كان ملوك ذلك الزمان يعدمون الحجج التي تجعل نفوسهم تسول لهم حروبا و معارك ، طمعا في ملك غيرهم . ولم يكن مفتي الملك ، الا ككاتب يضع له الفتوى ، التي تجعل الناس تصدق بان الملك دوما على حق . لكن القوة الجديدة ، ملاك المعامل ووسائل الانتاج و من يمونوا عليهم ، من آلاف العمال ، بداوا يشكلون معارضة حقيقية للملك و اعماله و مواقفه و آراءه و طموحاته . و مع الزمن اصبح لهم مكان مناسب ، استطاعوا الحصول عليه بقوة الضرورة و حاجة الملك لمساعدتهم له ، الى يسار الملك حيث يجلس ، بينما كان رجال الدين يجلسون الى يمينه ، أي يمثلون دور يمينه عند الحاجة اليهم . و بدات القوة الجديدة ، اليسارية ، تطرح افكارا حول الحريات و الديموقراطية و تقييد حقوق الملك ، و تقليل هيمنته على السلطة ، و كل ذلك لمصلحة الشعب و مصلحة التطور في البلد . و هكذا ظهرت الديموقراطية لاول مرة في التاريخ اذ بدات القوة الجديدة عبر مثقفيها ، الواعين و المتفقهين في اسس القانون و تطوره ، تطرح فكرة التخلص من السلطة الملكية الوراثية ، و اقامة السلطة الجمهورية ، التي يحكم بموجبها الشعب نفسه ، عبر رئيس ينتخب لمدة محددة ، و يكون بمثابة خادم فعلي ، و موظف اعلى من بقية الموظفين لصالح شعبه ، وليس بحاكم بطاش و مستبد ديكتاتوري ، على عادة ملوك ذلك العصر . لقد كان لفصل السلطات دور كبير في نشوء الجمهوريات . فقد كان اول من نادى بالفصل ما بين السلطات الثلاث ( القضائية ، التشريعية ، و التنفيذية ) مفكرين و كتاب عظام سطر التاريخ اقوالهم بماء الذهب . و منهم جان جاك روسو ، فولتير ، ديدارو ، ومونتيسكيو و غيرهم . و اثبتوا ان فصل السلطات يمنع تغول اي سلطة على سلطة اخرى غيرها ،كما و يساهم باحقاق الديموقراطية . و هكذا ظهرت القوانين المكتوبة التي تنص صراحة على حماية حق الفرد ضد تغول السلطة . و حماية حق المجتمع ضد شذوذ الفرد . ولكن فصل تلك السلطات كان يعني ابعاد المؤسسة الدينية عن السلطة ، لانها كانت الرديف و اليمين الذي يعتمد عليه الملك . فانزاح الملك ، و انزاحت معه المؤسسة الدينية ، و اصبحت السيطرة فعليا لمؤسسة دولة الموظفين . و ليس دولة الحاكم المطلق الذي يستمد قوته من نصوص دينية و اقوال ماثورة و علماء دين يضللون الناس ، كي تبقى على خضوعها له و لنزواته و نزوات أسرته من بعده قرونا و قرون . و اصبح الدين ، ليس اكثر من ، قضية شخصية ، لا احد يمنعها عن الفرد ، بل لا يسمح للفرد ان يستخدم الدين ستارا للوصول الى السلطة ، و نشر دين ما و تضليل الناس للوصول الى منافع و اهداف شخصية .