حقا تتشكل الدولة هكذا فقط مرتفعة فوق العناصر الخاصة كمؤسسة للمجموع.
الدولة السياسية المكتملة طبقا لطبيعتها هي حياة النوع الإنساني على العكس من حياته المادية. فجميع الشروط لهذه الحياة الأنانية تبقى موجودة في المجتمع البورجوازي خارج مجال الدولة، و لكن كخصائص لهذا المجتمع. فحيثما بلغت الدولة نموها الحقيقي يعيث الإنسان حياة ْمزدوجة ليس فقط في الفكر أو الوعي و إنما في الواقع، في الحياة، حياة سماوية و أخرى أرضية، الحياة في المجتمع السياسي حيث يعتبر نفسه كائنا عاما و الحياة في المجتمع البورجوازي، حيث يمارس حياته الخاصة، و يعتبر الآخرين وسيلة، و يتحول نفسه إلى وسيلة و لعبة في أيدي قوى غريبة. و تقف الدولة السياسية إزاء المجتمع البورجوازي بمثل روحانية السماء إزاء الأرض. إنها تقف في نفس التناقض معه و تتغلب عليه بنفس الطريقة التي يتغلب بها الدين على محدودية العالم الدنيوي. هذا يعني بأن تعترف به أيضا، تنشئه، و تصبح خاضعة له. الإنسان في واقعه الأكثر مباشرة في المجتمع البورجوازي هو كائن دنيوي. هنا حيا يعتبر بالنسبة لذاته و للآخرين فردا يكون ظاهرة غير حقيقية. و على العكس في الدولة حيث يعتبر الإنسان نوعا يكون العضو الخيالي لسيادة وهمية، و تسرق منه حياته الفردية الحقيقية و تملأ بجماعية غير واقعية.
إن الصراع الذي يجد الإنسان نفسه فيه كمعتنق لدين خاص و مواطن لدولة مع الناس الآخرين كأعضاء في المجتمع، يتقلص إلى الانشطار الدنيوي بين الدولة السياسية و المجتمع المدني. «فالحياة في ظل الدولة بالنسبة للإنسان البورجوازي [هنا بمعنى عضو من المجتمع المدني, الحياة الخاصة] هي مجرد مظهر أو استثناء مؤقت يتعارض مع الجوهر و القواعد.»
حقا أن البورجوازي يبقى في حياة الدولة مثل اليهودي بصورة سفسطائية، كما يبقى المواطن بصورة سفسطائية يهوديا أو بورجوازيا. لكن هذه السفسطة ليست شخصية. إنها سفسطة الدولة السياسية نفسها. الفرق بين الإنسان المتدين و المواطن هو الفرق بين التاجر و بين المواطن، بين العامل بأجر يومي و المواطن، بين المالك العقاري و المواطن، بين الفرد الحي و المواطن. و التناقض الذي يقوم بين الإنسان المتدين و الإنسان السياسي هو التناقض نفسه الذي يقوم بين البورجوازي و المواطن، بين عضو المجتمع البورجوازي و جلد الأسد السياسي الذي يرتديه.
هذا النزاع الدنيوي الذي تنحصر فيه المسألة اليهودية في الآخر،علاقة الدولة السياسية بشروطها، سواء كانت هذه عناصر مادية مثل الملكية الخاصة و ما إلى ذلك، أو فكرية مثل التعليم و الدين، الصراع بين المصالح العامة و المصلحة الخاصة، الانشطار بين الدولة السياسية و المجتمع البورجوازي، يترك باور هذه التناقضات الدنيوية قائمة، بينما يطعن في التعبير الديني عنها.
« إن أساسها بالذات، الحاجة التي تؤمّن للمجتمع المدني بقاءه و تضمن ضرورته، يعرض وجوده لخطر دائم، و يغذي في داخله عنصرا غير مأمون، و يأتي بذلك الخليط المتناوب من الفقر و الغنى، من العوز و الازدهار و بشكل عام التغير. » (ص
يقارن المرء مقطع «المجتمع المدني» بكامله (ص 8-9) ، و الذي صيغ وفق الملامح الأساسية لفلسفة الحق لدى هيغل. يعترف بالمجتمع المدني في تناقضه مع الدولة السياسية كضرورة، لأن الدولة السياسية معترف بها كضرورة.
التحرر السياسي خطوة تقدمية كبير حقا، و رغم أنها ليست الشكل الأخير للتحرر الإنساني بشكل عام لكنها الشكل الأخير للتحرر الإنساني ضمن النظام العالي القائم حتى الآن. نحن نتحدث هنا بالطبع عن التحرر الحقيقي، العملي.
يتحرر الإنسان سياسيا من الدين بإِقصائه من الحق العام إلى الحق الخاص. إنه لا يعود روح الدولة، حيث يتصرف الإنسان – و لو بطريقة محدودة و ضمن شكل خاص و في مجال خاص – ككائن نوعي، بالاشتراك مع الناس الآخرين، و إنما يكون قد أصبح روح المجتمع البورجوازي و مجال الأنانية و حدب الجميع ضد الجميع. إنه لم يعد جوهر المجموع و إنما جوهر الاختلاف. و أصبح تعبيرا عن انفصال الإنسان عن طبيعته الاجتماعية، بينه و بين الناس الآخرين – و هو ما كانه في الأصل. إنه لم يعد سوى الاعتراف المجرد بالخطأ الخاص و النزوة الشخصية و الاعتباطية. أن التشظي اللانهائي للدين في أميركا الشمالية مثلا يعطيه ظاهريا شكل قضية خاصة محضة. لقد ألقي به في عداد الاهتمامات الخاصة و هجر كموضوع عام من قبل الجماعة. و لكن لا ينبغي أن يعترينا الوهم بشأن حدود التحرر السياسي. إن انشطار الإنسان إلى إنسان عام وآخر خاص و نقل الدين من الدولة إلى المجتمع البورجوازي، ليسا مرحلة و إنما هما اكتمال التحرر السياسي الذي لا يلغي التدين الحقيقي للإنسان كما لا يسعى لإلغائه.
أن تفكيك الإنسان إلى يهودي و مواطن، إلى بروتستانتي و مواطن، إلى إنسان متدين و مواطن، هذا التفكيك ليس كذبة ضد المواطن، و لا التفافا على التحرر السياسي، إنه التحرر السياسي نفسه. إنه الطريقة السياسية للتحرر من الدين. تستطيع الدولة بلا شك و يتوجب عليها في الفترات التي تولد فيها الدولة السياسية من المجتمع البورجوازي بالقوة و يسعى التحرر البشري أن يحقق نفسه في صورة التحرر السياسي، أن تمضي حتى إلغاء الدين، حتى القضاء على الدين، و لكن تمضي على هذا النحو فقط إلى أبعد حد كما تفعل لإلغاء الملكية الخاصة، إلى المصادرة، إلى الضرائب التصاعدية، كما تمضي إلى إلغاء الحياة، إلى المقصلة. وفي اللحظات الخاصة من إحساسها بذاتها تبحث الحياة السياسية عن شروطها، فتحاول سحق المجتمع البورجوازي و عناصره لتقيم نفسها كحياة للنوع الإنساني، حقيقية و خالية من التناقض. إنها تستطيع هذا فقط من خلال تناقض عنيف مع شروط حياتها الخاصة، فقط بأن تعلن أن الثورة مستديمة فتنتهي المأساة السياسية من هنا بالضرورة كذلك بإِعادة الدين و الملكية الخاصة و جميع عناصر المجتمع البورجوازي، كما تنتهي الحرب بالسلام.
أجل، ليست الدولة المسماة مسيحية، التي تعترف بالمسيحية كأساس لها و كدين للدولة و تميز نفسها بهذا عن الديانات الأخرى هي الدولة المسيحية الكاملة، و إنما الدولة الملحدة، الدولة الديمقراطية، الدولة التي تضع الدين ضمن باقي عناصر المجتمع البورجوازي. لم تنجح بعد الدولة التي لا تزال لاهوتية و التي تقر باعتناق المسيحية بصورة رسمية، التي لا تجرؤ بعد على إعلان نفسها كدولة، لم تنجح هذه الدولة بعد في التعبير عن الأساس البشري في شكل دنيوي بشري، تكوك المسيحية التعبير الدافق عنه. إن ما يسمى بالدولة المسيحية هو ببساطة اللادولة، إذ لا تستطيع المسيحية كدين و إنما الخلفية البشرية للدين المسيحي فقط أن تطرح نفسها في إبداعات إنسانية حقيقية.
إن ما يسمى بالدولة المسيحية إنما هو النفي المسيحي للدولة، و لكنه ليس تحقيقا للمسيحية من قبل الدولة بأي حال من الأحوال. الدولة التي لا تزال تقر بالمسيحية على شكل دين، لا تقر بها على شكل دولة، فهي لا تسلك سلوكا متدينا إزاء الدين، هذا يعني إنها ليس التحقيق الفعلي للأساس الإنساني، لأنها لا تزال تقود إلى الوهم، إلى الهيئة الخيالية لهذه النواة الإنسانية. إن ما يسمى بالدولة المسيحية هو الدولة غير المكتملة، و الدين بالنسبة لها تكملة و علاج لنقصها. من هنا يصبح الدين بالنسبة لها بالضرورة وسيلة، و هي دولة النفاق. إنه لفرق كبير فيما إذا اعتبرت الدولة المكتملة الدين ضمن شروطها بسبب نقص يكمن في الطبيعة العامة للدولة، أو أعلنت الدولة غير الكاملة بسبب النقص الذي يكمن في وجودها الخاص كدولة ناقصة الدين كأساس لها. و يصبح الدين في الحالة الأخيرة سياسة غير كاملة. و في الحالة الأولى يظهر نقص السياسة الكاملة في الدين. يحتاج ما يسمى بالدولة المسيحية إلى الدين المسيحي ليكتمل كدولة.
أما الدولة الديمقراطية، الدولة الحقيقية فهي لا تحتاج إلى الدين من أجل اكتمالها السياسي. و أكثر من ذلك فهي تستطيع أن تطرح جوانب كثيرة من الدين لأن الأساس الإنساني للدين متحقق فيها بطريقة دنيوية. و على العكس يقف ما يسمى بالدولة المسيحية موقفا سياسيا إزاء الدين و دينيا إزاء السياسة. و حين تحط هذه الدولة من الأشكال السياسية ظاهريا فإِنها تحط من الدين ظاهريا بنفس القدر.
لنتفحص من أجل توضيح هذا التناقض البناء الذي يطرحه باور للدولة المسيحية، و هو بناء منبثق عن دراسة الدولة المسيحية الجرمانية.
يقول باور «من أجل إثبات عدم إمكانية أو عدم وجود الدولة المسيحية نبه المرء أكثر من مرة مؤخرا إلى أقوال الإنجيل، تلك التي لا تمتنع الدولة عن العمل بها و حسب و إنما لا تستطيع حتى العمل بها إذا لم تحل نفسها نهائيا.»